دلالة حدوث الكون على الصانع
2023-01-09

ويتألف من مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن هذا الكون المادي أمر حادث.

بيان ذلك: أن هناك سؤالاً قديماً وهاماً حول الكون، وهو أن هذا المشهد الكوني ومكوناته هل هو أمر أزلي قديم لا أول له ولا بداية؟ وهل المادة التي يتكون منها أزلية وقد كانت موجودة منذ الأزل؟ وهل القوانين الكيميائية والفيزيائية والأحيائية التي تسيّر الكون وتنظمه وتولّد ملايين الكائنات المختلفة كانت مرتبة وأزلية من تلقاء نفسها وليست أموراً حادثة؟

 أم أن هذا المشهد ومكوناته أمور حادثة وجدت بعد أن كانت معدومة.

الصحيح هو الثاني، فالكون كله حادث لوجهين:

 1 - أن الكون في تغير دائم (يلاحظ أن فكرة ــ تغير الكون ــ استخدمت في هذا الدليل لإثبات حدوث الكون أولاً ثم إثبات حاجته إلى سبب، وفي الدليل الثاني استخدم لإثبات حاجته إلى السبب على نحو مباشر)، فالمادة وأجزاؤها وما يتكون منها دائماً في تغير وتطور بلا فرق بين الكائنات الحية وغيرها، فتطور كثير من الأشياء أمر ظاهر بالفهم العام بالنظر في أحوال الكائنات التي نطلع عليها من قرب، وقد أوضح ذلك العلم الحديث بالاطلاع على الوضع الدقيق للمادة ابتداءً من أجزاء الذرة إلى المجرات العظيمة، فالمادة وما يتكون منها في تقلب دائم.

۲ ـ ما انتهى إليه علم الكونيات في العصر الحديث من ترجيح حدوث الكون بالانفجار الكبير لمادة مكثفة للغاية انفجرت انفجاراً هائلاً وولدت أنواع الطاقات والمجرات بمكوناتها، وأن الكون لا يزال يستهلك تلك الطاقة المتولدة، ولا تزال المجرات تتباعد - بالرغم من وجود قانون الجاذبية بين الأجسام - عن بعضها في انتظام يعبر عن نشأتها من طاقة متولدة من انفجار كوني سابق.

وقد جاء في علم الأحياء التاريخي أن الحياة حالة وليدة على الأرض بعد أن تهيأت لذلك ـ وقد حدثت قبل ٤،٥ مليار سنة تقريباً بحسب الدراسات العلمية ـ إذ لم يكن وضع الأرض من قبل جاهزاً لنشأة الحياة فيها، وهذا أمر معروف.

 إذن لا شك في أن الكون والكائنات وانتظامهما وقوانينهما أمر حادث.

المقدمة الثانية: أن كل أمر حادث يحتاج علة وسبباً، وليس من المعقول أن يحدث شيء بلا علة.

 وهذه الفكرة من القضايا البديهية الواضحة التي يشعر بها الإنسان مبكراً، إذ نجد أن الطفل ذا الخمس سنوات مثلاً إذا صادف لعبة جديدة سأل: من جاء بهذه اللعبة؟ وإذا افتقد لعبة يسأل: أين هي؟ ولماذا لا توجد في مكانها؟

هذا المبدأ يمثل بنية التفكير الإنساني، فالعمليات الاستنباطية في الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية تنطلق من استخراج ما وراء الحوادث من العلل والأسباب، كما أن الأبحاث العلمية تحاول دائماً فهم علل الأمور الحادثة في المجالات المختلفة من الاستقراء والتجربة، فالطب مثلاً يبحث عن أسباب الأمراض الحادثة وعن نتائج استعمال وتناول الأطعمة والأغذية، منطلقاً من أن كل ما يحدث إنما يحدث عن علة وسبب.

 إذن ليس من المعقول أن يكون هناك شيء حادث من غير علة.

فهذا مبدأ بديهي وواضح في الفكر الإنساني.

 وعلى هذا الأساس يُعرف بوضوح أن لهذا الكون والكائنات وأنظمتها وقوانينها سبباً موجباً لها مهيمناً عليها.




أفي الله شكٌ (سلسلة محاضرات فكرية)، ص18 ــ 22

السيد محمد باقر السيستانير