الحوزة: مصطلحاً، وتاريخاً علمياً موجزاً
2022-07-25

المبحث الأول:

مصطلح الحوزة العلمية

يحسن بي أن أبدأ حديثي بتحديد مصطلح (الحوزة العلمية) بعد أن تداولته وسائل الإعلام المختلفة وفسرته بعضها عن قصد أو بدونه على هواها، وبخاصة إثر بروز مدينة النجف الأشرف ومرجعيتها الدينية كصانعة لحدث كبير في العراق، وحاضرة حضوراً فعلياً خارجه مما لا يمكن تجاوزها أو تخطيها بحال من الأحوال.

تعدّ الحوزة العلمية الوسط العلمي المنتج والحاضن معاً للساعين إلى الخروج من عهدة التكليف الإلهي بالنفر الوارد في قوله تبارك وتعالى في محكم كتابه المجيد: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) من الباذلين جهدهم للتخلق بأخلاق الإسلام وآدابه سواء أكانوا علماء ومبلغين أم معلمين ومتعلمين أم مفسرین ومؤرخين أم من غيرهم من السالكين إلى الله والداعين اليه، خطباء كانوا أم وكلاء أم مبلغين أم من حذا حذوهم واقتدى بسنتهم، متفقهاً في الدين تارة، ومنذراً ومبلغاً أخرى، متأدبا بآداب الإسلام الكريمة وأخلاقه السامية.

والحوزة العلمية في الوقت نفسه ذراع المرجعية والوجود الرابط أو الحلقة الموصلة بين المرجع الديني المجتهد ومقلده، والحكم الشرعي ومتبعه، والعالم بأصول الشريعة وفروعها والمتعلم.

وهي تعني أيضا فيما تعنيه: مركز التعليم الديني الذي يتبع في طريقة تعليمه النهج الذي تربى عليه الفقهاء السابقون منذ العصور الإسلامية الزاهرة وحتى الحاضر، متخذة من نظام الحلقات في الغالب شکلاً لها، متبعة نظام الدراسة التامة بأن يبحث الموضوع ثم يعاد بحثه في كتب لاحقة متعاقبة مع توسعة متدرجة، متخذة من شرح عبارة الكتاب المقرر وتحليلها والغوص في مدالیلها ومعانيها طريقة للتدريس، متيحة للطالب الحرية المطلقة في المناقشة، مانحة إياه الفرصة المثلى لاختيار الأستاذ الذي يشاء، وتحديد الزمان والمكان للدرس بالاتفاق بينهما عليه، ساعياً طالبها من وراء دراسته نيل رضا الله عز وجل في دنياه وآخرته، مبتغياً تحصيل المعارف الشرعية زاهداً بملذات الدنيا الفانية وزخارفها، أو هكذا هو المفترض بالحوزوي، بيد أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال صدق انطباق عنوان نية القربة لله عز وجل والإخلاص والواقعية والتجرد والزهد واستفراغ الوسع في البحث والدراسة والعلم والعمل على جميع الحوزويين طلاباً وغير طلاب.

المبحث الثاني:

موجز من تاريخ حوزة النجف الأشرف:

لئن اختلف المؤرخون في تحديد أوائل العمر الزمني الناضج للحركة العلمية الدينية في النجف الأشرف، فإنهم يتفقون أياً كانت آراؤهم على أن مدينة النجف الجامعة كانت حاضرة للعلم وحاضنة له، يؤمها الطلاب ويقصدها المتعلمون للتزود بالعلم والمعرفة والبحث والتحقيق بعد (سنة 448 هـ / 1056 م) زمن هجرة شيخ الطائفة وصاحب كرسي الكلام وأحد الرواد الأوائل لعلم الفقه المقارن ومؤلف الكتب الثمانين في الفقه والتفسير والأصول والرجال وغيرها الشيخ محمد بن الحسن الطوسي المتوفي (سنة 460 هـ / 1028 م) وانتقاله شبه القسري من بغداد إلى النجف الأشرف إثر اقتحام داره وإحراق كتبه، ابان فتنة طائفية بين المسلمين شيعة وسنة، أشعلها وأوری زنادها ببغداد حاكمها طغرل بك السلجوقي أول دخوله لبغداد، فاختلطت جراء فتنته الطائفية دماء أبناء بغداد ومداد حبرهم وعقلانية أفكارهم كلها في شوارعها وأزقتها ونهر دجلتها التي مزج ماؤها بين حمرة الدم القاني وسواد مداد الكتب مما ألقي فيها منها، وقد ادی التعصب الطائفي المقيت إلى إحراق أعظم مكتبة إسلامية شيعية يومها هي مكتبة (دار العلم) التي ضمت بين دفتيها وفوق رفوفها أكثر من عشرة آلاف مجلد في مختلف العلوم والآداب والفنون بعد جلبها بمشقة وتعب من مختلف الأقطار والبلدان حتى وصفها المؤرخ والجغرافي المعروف ياقوت الحموي بقوله: لم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة و أصولهم المحررة.




حوزة النجف الاشرف، ص43

تأليف الدكتور عبد الهادي الحكيم