تاريخ الحوزة العلمية
2020-05-18

إنشاء أوّل حوزة شيعيّة وأفضل مدرسة علميّة إماميّة في بغداد عاصمة البويهيّن بعد طول غيبة للحريّات وطول هجران لهذا المذهب من قِبل الحكّام والخلفاء بالحرب الإعلاميّة والتصفيات الجسديّة التي مارسوها على المذهب الحقّ وأهله وكافّة المنتسبين إليه ،

فالتحق بها المتعطّشون إلى العلم والمعرفة والفضيلة وتخرّج منها جمع غفير من علماء الطّائفة وأعلام المذهب كالعَلَمين السّيّدين المرتضى والرّضيّ وشيخ الطّائفة الطّوسيّ أعلى الله تعالى مقاماتهم ، الذي انتقل فيما بعد إلى نجف الأشرف ووضع الحجر الأساس واللبنة الاُولى لتأسيس الحوزة العلميّة في مدينة النجف الأشرف بعد أن نجحت مؤامرات الأعداء في إسقاط الدولة البويهيّة والقضاء عليها وصار الشيخ مستهدفاً من قِبل الغزاة ،

ولهذا كانت بغداد معقلاً لأوّل جامعة دينية في عصر غيبة المعصوم “عليه‌السلام” ، كما كانت في تلك الحقبة الزمنية مركزاً للعلوم والفنون المختلفة لكافّة المذاهب والتوجّهات الإسلامية ، فوجد الفكر الإسلامي فيها مجالاً خصباً للنمو وتبادل الآراء والأنظار ، ومقارعة الحجج والبراهين ، والرقيّ والتكامل والانتشار ، وإن لم يخلُ ذلك من جوانب سلبيّة أدّت إلى نشر بعض الأفكار الباطلة والمذاهب الضالّة.

وبعد أن ضاقت الخلافة العبّاسية ذرعاً، لا سيّما بفعل الدسائس والفتن التي بثّها بعض علماء المذاهب المناوئة للمذهب الجعفري، مارس الخليفة وأزلامه ظغوطاً شديدة على علماء المذهب وأجبروهم على الرحيل إلى مدينتي الريّ وقم الفارسيّتين منذ الأعوام الاُولى من الغَيبة الكبرى بحثاً عن الأجواء الآمنة والظروف الملائمة ،

وإن كانت هاتان المدينتان مقرّاً لجمع غفير من الشيعة منذ أمدٍ طويل، وكان قد برز فيهما بعض أعلام الطائفة من الفقهاء والمحدّثين منذ الغَيبة الصغرى كالمرحوم الشيخ الكليني أعلى الله مقامه الشريف مصنّف أبرز كتب الحديث ، أعني الكافي ، وهو أحد أشهر الكتب الأربعة في المذهب الإمامي الاثني عشري ،

وهكذا الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه الشريف ، مصنّف الكتب العديدة ، لا سيّما كتاب فقيه من لا يحضره الفقيه ، وهو من الكتب الأربعة أيضاً ، وهكذا ابن بابويه القمّي والد الشيخ الصدوق ، وكذلك أخوه ، حيث سُمّي الشيخ الصدوق وأخوه بالصدوقين ، وكلّهم من أجلّاء الأصحاب وأعلام الطائفة ، لكنّ جميع هؤلاء الأعلام تلقّوا علومهم في بعض مدن العراق لا سيّما العاصمة بغداد.

إلاّ أنّ هذه النقلة لم تدم طويلاً ، وعادت الدراسة الدينية والنشاطات العلمية الشيعية إلى بغداد في التفرة الأخيرة من الحكم العبّاسي بفضل الجهود التي بذلها شيخ الطائفة أعلى الله مقامه الشريف ، والظروف التي أحدقت بالنظام العبّاسي فزلزلت حكمهم ، وقلّصت من سلطتهم ،

وأصحت بغداد ، وبالتحديد في جانب الكرخ من هذه المدينة ، تعجّ بطلبة العلوم الدينية وعشّاق المعارف الإلٰهيّة الصادرة من النبع الصافي والفكر الأصيل لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم أفضل صلوات المصلّين،

وكان الشيخ الطوسي ( قدّست نفسه الزكية ) محلّ احترام وتقدير لدى كافّة علماء المسلمين وإن كانت عظمة شأنه وجلالة قدره لم تشفع له عند المبغضين وناصبي العداء لأهل البيت عليهم‌السلام ولشيعتهم ، فلاقى منهم ما لاقى أهل البيت عليهم‌السلام من أسلافهم.


ومع الغزو البربري التركي السلجوقي على العراق والبلاد الإسلامية جمعاء ، لا سيّما عزوهم لبغداد العاصمة بسبب الصراعات الداخلية والخلافات الشديدة التي عاشتها الحكومة المركزية ، والانشقاق والتمزّق وضعف الإرادة لدى مركز الخلافة العبّاسية ، واشتغال الخليفة بالاُمور الهامشية ، والانغماس في الملذّات والشهوات ، واتّساع الهوّة بينه وبين الرعية بتسليط الأتراك على رقاب المسلمين ،

لهذه الأسباب وغيرها ممّا لا مجال إلى سردها في هذه الوجيزة رحل العلم وأهله من بغداد ، وشدّت الجامعة العلمية الشيعية رحالها إلى مدينة الحلّة الشهيرة في العراق ، فحطّت وأناخت برحلها هناك ، وقامت المعاهد والمدارس والمراكز العلميّة الإمامية على قدم وساق مزدهرة بحلقات الدروس ، مكتظّة مزدحمة بأهل العلم وطلاّبه ،

وتطوّرت دراسة الفقه والاُصول ومباني الاجتهاد في بغداد ثمّ الحلّة تطوّراً كبيراً ، وظهرت منهجيّة في غاية الدقّة والاتقان ، سيّما بعد أن ظهر فطاحل الفقه والاُصول وأساطينهما ، كالمحقّق الحلّي صاحب الشرائع ، والعلاّمة الحلّي صاحب المصنّفات العظيمة ، وابنه فخر المحقّقين صاحب المعالم ، والشهيد الأوّل صاحب اللمعة الدمشقية ، وابن ورّام صاحب مجموعة ورّام ، والسيّد ابن طاووس ، وأمثالهم من الأعاظم والفقهاء ،

واستمرّت الحركة العلمية في الحلّة حتّى مع تأسيس حوزة النجف ، وظلّت ناشطة لمدّة مديدة رغم وجود الحوزة العلمية التي أنشأها شيخ الطائفة الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه الشريف.

وأمّا النجف الأشرف فمنذ أن حلّ بها شيخ الطائفة لمع نجمها في سماء العلم والفضيلة ، وصارت مأوى العلم والعلماء وملجأ طلاّب العلم والفضيلة يشدّون إليها الرحال ، ويعلّقون عليها الآمال ، فاستقرّت الزعامة الدينية والقيادة العلمية والمرجعية الفقهية في هذه المدينة المقدّسة طيلة القرون والأعصار المتمادية ،

فكانت مصدر الخيرات ومنبع البركات لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام منذ نشأتها إلى يومنا هذا ، وكيف لا وفيها ضريح مدينة علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ،

فقد تخرّج منها أقطاب الإمامية وأعلامها ، وأساطين الفقه وأعاظمه ، وفحول الأدب والشعراء ، ونوابغ المتكلّمين ، وأعاظم الحكماء والفلاسفة ، وأعمدة المفسّرين ، بالإضافة إلى فطاحل في علم الرياضيات والحساب والهندسة والجبر والطبّ والفلك والعلوم الغربية ، كالجفر وعلم حروف الجمل ، ناهيك عن أصحاب القلم والمفكّرين الإسلاميّين والخطباء المفوّهين ،

فضلاً عن الزعماء الدينيّين والفقهاء المجاهدين الذين بفضل جهودهم وجهادهم وحسن تقديرهم وحنكتهم السياسية وفتاواهم الصارمة وشجاعتهم الحيدرية وبطولاتهم في ميادين التصدّي والدفاع والجهاد ظلّت راية الحقّ ومعالمه خفّاقة ترفرف تحت ظلّ العناية العلوية ورعاية بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه رغم اُنوف المعاندين والمكابرين.

في القرن الرابع الهجري ، وفي ظلّ الحكم الشيعي الذي شيّده البويهيّون في العراق وبعض البلاد المجاورة اُقيم أوّل محفل علمي في مدينة كربلاء إلى جوار مريد سيّد الشهداء الإمام الحسين “عليه‌السلام” بفضل العالم الجليل والمحدّث القدير صاحب التصانيف الكثيرة ، وراوي أكثر الاُصول الشيعية الأربعماءة ، الشيخ حُميد بن زياد النينوي ،


فكان اوّل نواة لتأسيس وإنشاء مركز علمي وحوزة شيعية علمائية ، ثمّ انتقل إليها الفقيه المكنّى بـ أبي حمزة ، من تلامذة المرحوم شيخ الطائفة ، وشهدت هذه الحوزة ازدهاراً كبيراً ، وحفلت بكبار الفقهاء والمجتهدين في فترات عديدة وعصور مديدة ، وتخرّج منها العديد من الأجيال حتّى أنّها صارت في بعض الفترات مركزاً دون منافس للزعامة الدينية والمرجعية الشيعة ،

ومن أهمّ البارزين فيها ، أو الراحلين إليها والنازلين بها ، من أعيان الطائفة يمكن تسمية الشيخ ابن فهد الحلّي أعلى الله مقامه ، والفقيه الأخباري الكبير الشيخ يوسف البحراني قدس‌سره ، والعلاّمة محمّد باقر الملقّب بـ الوحيد البهبهاني قدّس الله روحه ، الذي أحدث ثورة في اُصول الفقه الجعفري ، ونهض بأعباء الذبّ عن معالم الاُصول الشيعية في تصدّيه لهيمنة الفكر الأخباري ، وإلحاق الهزيمة بمشايخهم في عقر دارهم