السادس من جمادى الأولى استشهاد جعفر بن ابي طالب (عليه السلام) سنة 8 هجري
2020-01-02

 

جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)

وُلِد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) بمكّة المكرّمة بعد عام الفيل بعشرين سنة، وكان من المسلمين الأوائل.. حيث كان ثالثَ ثلاثة:

• رَوَوا: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله بُعِث يوم الإثنين، وصلّى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام معه يوم الثلاثاء.

• وقال عفيف الكِنديّ ( أخو الأشعث بن قيس الكِنديّ ):

رأيت شابّاً يصلّي، ثمّ جاء غلامٌ فقام عن يمينه، ثمّ جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما. فقلت للعبّاس بن عبدالمطّلب: هذا أمرٌ عظيم!

قال العباس: ويحك! هذا محمّد، وهذا عليّ، وهذه خديجة.. إنّ ابن أخي حدّثني أنّ ربّه ربّ السماوات والأرض أمَرَه بهذا الدين، وواللهِ ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة .

• وذكروا: أنّ أبا طالب فقَدَ النبيَّ صلّى الله عليه وآله يوماً، وكان يخاف عليه من قريش أن يَغتالوه، فخرج أبو طالب ومعه ابنُه جعفر يطلبانِ النبيَّ صلّى الله عليه وآله، فوجده قائماً في بعض شِعاب مكّة يصلّي، وعليٌّ عليه السّلام معه عن يمينه.. فلمّا رآهما أبو طالب قال لجعفر: تَقَدّمْ وصِلْ جناحَ ابنِ عمّك. فقام جعفر عن يسار النبيّ صلّى الله عليه وآله، فلمّا صاروا ثلاثةً تقدّم رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وتأخّر الأخَوَان: عليٌّ وجعفر، فبكى أبو طالب ( فَرَحاً ) وقال:

إنّ عليّـاً وجعفـراً ثِقـتـي عند مُلِمّ الخطوبِ والـنُّـوَبِ

لاتَخذُلا، وانصُرا ابنَ عمِّكما أخي لأُمّـي مِن بينهم وأبـي

واللهِ لا أخـذلُ الـنبـيَّ ولا يَخذُلُه مِن بَنِيَّ ذو حَسَبِ

• ودوّن الذهبيّ: عن الحسن بن زيد: إنّ عليّاً أوّلُ ذكَرٍ أسلم، ثمّ أسلَمَ زيدٌ ثمّ جعفر .

• وقد أجمع المؤرّخون والرجاليّون على أنّ جعفر الطيّار ابن أبي طالب عليه السّلام كان من السبّاقين إلى الإسلام، الذين بُشِّروا بقوله تعالى: والسّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئكَ المُقَرَّبونَ * في جَنّاتِ النَّعيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلينَ * وقَليلٌ مِنَ الآخِرينَ .

في أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله

طالما أشاد رسولُ الله صلّى الله عليه وآله بمواقف أصحابه المخلصين الأوفياء، والمجاهدين الثابتين الأُمَناء، حتّى قال في معركة أُحد: لَمَقامُ نَسيبةَ بنتِ كعبٍ اليومَ خيرٌ من مَقام فُلانٍ وفلان!

فكيف بجعفر بن أبي طالب.. وقد حَمَل رايةَ الجهاد عشرين عاماً، وهاجَرَ في سبيل الله الهِجرتَين، واستُشهِد من أجل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ؟! فهذه باقةٌ من جملة أحاديث نبويّةٍ شريفةٍ فيه:

• روى المتّقي الهندي: قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: عليٌّ أصلي، وجعفر فَرعي .

• وروى المحبّ الطبريّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قولَه: نحن بنو عبدالمطّلب ساداتُ أهل الجنّة: أنا، وحمزة، وعليّ، وجعفر بن أبي طالب، والحسن والحسين، والمهديّ .

• وعن أبي أيّوب الأنصاريّ قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله لفاطمة رضي الله عنها: منّا خير الأنبياء ـ وهو أبوكِ، ومنّا خيرُ الأوصياء ـ وهو بَعلُكِ، ومنّا خير الشهداء ـوهو عمُّ أبيكِ « حمزة »، ومنّا مَن له جَناحانِ يطير بهما في الجنّة حيث يشاء ـ وهو ابن عمّ أبيكِ « جعفر »، ومنّا سِبطا هذه الأمّة سيّدا شباب أهل الجنّة « الحسن والحسين » ـ وهما ابناكِ، ومنّا المهديّ ـ وهو وَلَدُكِ .

• وروى الشيخ الصدوق في أماليه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: إنّي خُلِقتُ من طينةٍ مرحومةٍ في أربعةٍ من أهل بيتي: أنا وعليٌّ وحمزةُ وجعفر .

• ونقل الحاكم النيسابوريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال لجعفر: أمّا أنت ـ يا جعفر ـ فأشبهتَ خَلْقي وخُلُقي، وأنت من شجرتي التي أنا منها .

• ودوّن ابنُ الأثير هاتين الروايتين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال:

ـ أمّا أنتَ ـ يا جعفر ـ فأشبهتَ خَلْقي وخُلُقي، وأنت مِن عترتي التي أنا منها.

ـ رأيتُ جعفراً يطير في الجنّة مع الملائكة .

• فيما روى ابن عبدالبَرّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وقد رأى جعفراً مُقْبِلاً من الحبشة إلى المدينة بمن معه من المسلمين ووفُد النَّجاشي، وكان المسلمون في غمرة الابتهاج بفتح خيبر ـ استقبله معانقاً إيّاه وقال: ما أدري بأيِّهِما أنا أشَدُّ فَرَحاً: أبِقُدومِ جعفر، أم بفتحِ خيبر ؟!

قال الميرزا النوريّ: إنّ ما نزل في جعفر من الآيات، وما ورد في شأنه من الأخبار، ما يكشف عن مقامٍ هو فوق [ مقام ] العدالة بدرجات .

 

إلى الحبشة

للظروف العصيبة التي مرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وآله والمسلمون الأوائل، كان على البعض أن يهاجر إلى الحبشة، فهاجر إليها نيّفٌ وثمانون مسلماً بزعامة جعفر بن أبي طالب. ولقد أثار ذلك عداوة قريش وحفيظتَها، فأرسلت إلى ملك الحبشة ( النَّجاشيَّ ) وفداً مكوّناً من عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد محمَّلَينِ بالهدايا للملك وحاشيته، يطلبانِ بذلك أن يردّ المسلمين المهاجرين إلى قريش، فوَرَدا على الملك، وقال عمرو ـ وكان مُفاوِض قريش: أيّها الملك، إنّ قوماً منّا خالفونا في ديننا، وسَبّوا آلهتنا، وصاروا إليك، فرُدَّهم إلينا.

فبعث النجاشيُّ إلى جعفر، فجاءه، فقال النجاشيّ له:

ـ يا جعفر، ما يقول هؤلاء ؟!

ـ أيّها الملك، وما يقولون ؟

ـ يسألوني أن أردَّكم إليهم.

ـ أيّها الملك، سَلْهم أعبيدٌ نحن لهم ؟

فقال عمرو: لا، بل أحرارٌ كرام.

قال جعفر: فسَلْهم، ألَهُم دُيونٌ يطالبوننا بها ؟

قال عمرو: لا، ما لنا عليكم ديون.

قال جعفر: فلكم في أعناقنا دماء تُطالبوننا بِذُحول ؟

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منّا ؟! آذَيتمونا فخرجنا من بلادكم.

فقال عمرو: أيّها الملك، خالَفونا في ديننا، وسَبُّوا آلهتنا، وأفسَدوا شبابنا، وفرّقوا جماعتنا،فرُدَّهم إلينا لنجمع أمرَنا.

فقال جعفر: نعم أيّها الملك، خالفَناهم.. إن الله تعالى بعث فينا نبيّاً أمر بـ: خلْعِ الأنداد وتركِ الاستقسام بالأزلام، وأمَرَنا بالصلاة والزكاة.. وحَرَّم: الظلمَ والجور وسفكَ الدماء بغير حقّها، والزنا والربا والمِيتةَ والدم، وأمرَنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي: بهذا بعَثَ اللهُ عيسى.. يا جعفر،هل تَحفَظ ممّا أنزَلَ الله تعالى على نبيّك شيئاً ؟

قال: نعم.

فقرأ جعفر على النجاشيّ سورة مريم.. فلمّا بلغ قولَه تعالى: وَهُزّي إلَيك بِجِذْع النَّخلةِ تُساقِطْ عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاً ، بكى النجاشيّ وقال: هذا ـ والله ـ هو الحقّ.

وأنزلَ اللهُ تعالى في ذلك: وإذا سَمِعوا ما أُنزِلَ إلى الرسولِ تَرَى أعيُنَهُم تَفيضُ مِنَ الدُّمعِ مِمّا عَرَفُوا مِن الحقِّ يَقولونَ رَبَّنا آمَنّا فآكتُبْنا مَعَ الشاهدين .

وتفشل مؤامرةُ قريش، وقد تساءل النجاشيّ عن الإسلام أراد أن يعرف معالمَه وقد شغله ذلك، فأجابه جعفر مستعرضاً ظروف مكّة والعرب والحياة الجديدة قائلاً:

إنّ هؤلاء على شرِّ دِينٍ.. يَعبدون الحجارة ويُصلّون للأصنام، ويقطعون الأرحام، ويستعملون الظلم، ويستحلّون المحارم. وإنّ الله بعث فينا نبيّاً مِن أعظمنا قَدْراً، وأشرفِنا سراراً ( أي نَسَباً )، وأصدَقِنا لَهجةً، وأعزِّنا بيتاً.. فأمَرَ عن الله بتركِ عبادة الأوثان، واجتنابِ المظالم والمحارم، والعملِ بالحقّ، والعبادةِ لله وحده.

فردّ النجاشيّ على عمروٍ وعمارة هداياهما وقال: أدفعُ إليكم قوماً في جواري على دين الحقّ، وأنتم على دين الباطل ؟!

ودار بحثٌ عقائديّ بين عمروٍ وعمارة من جهة، وجعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه من جهة ثانية، والنجاشيّ يتابع الأمر وقد تناول موضوع السيّد المسيح وأمّه مريم عليهما الصلاة والسلام، انتهى ذلك البحث بتفوّق جعفر، كذلك انتهى الموضوع بخيبة عمرو وعمارة وإخفاق المؤامرة. وأقام المسلمون بأرض الحبشة حتّى وُلِد لهم الأولاد، فكان جميع أولاد جعفر قد وُلِدوا في أرض الحبشة، وعاشوا في أمنٍ وسلام .

هذا، وقد أسلم النجاشيّ على يَدَي جعفر بن أبي طالب، وكذا جماعة من أتباع النجاشيّ صرّح بذلك ابن حجر العسقلانيّ في كتابه ( الإصابة في تمييز الصحابة 86:2 ). وكان من النجاشيّ أن راسَلَ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله، وبَعَث إليه بالهدايا كرامةً ومحبّة، كذا بعث إليه بثلاثين قِسّيساً لينظروا في كلامه صلّى الله عليه وآله وآدابه، فوافَوا المدينة، ودعاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى الإسلام فآمَنوا، وعادُوا إلى النجاشيّ.. ومن هناك انتشر الإسلام في تلك الربوع إلى يومنا هذا .

إلى مُؤتة

مُؤْتة هي: قرية من قرى البَلْقاء على حدود الشام ، وهي اليوم معروفة في دولة الأُردنّ.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد أخذ ـ بعد فتح مكّة ـ يُراسل ملوكَ العالَم يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم ملك بُصرى إذْ أرسل إليه الحرثَ بن عُمَير الأزديّ، فعرض له شُرَحبيلُ بن عمرو فقتله بعد أن عَرَفه أنّه من رُسُل النبيّ صلّى الله عليه وآله، فكان ذلك بداية للحرب.

حينذاك أرسل صلّى الله عليه وآله جيشاً مكوّناً من ثلاثة آلاف مقاتل، عليهم جعفر بن أبي طالب، فإنْ أُصيب فزيد بن حارثة، فإن أُصيب فعبدُ الله بن رَواحة. وكان الملتقى في البَلْقاء شرقَ نهر الأُردنّ عند « مُؤْتة » حيث جيشُ الروم وعدّتُه مائتا ألفِ مقاتل، فتكون النسبة واحداً إلى سبعين، ومع ذلك قرّر المسلمون القتالَ ومُنازلةَ العدوّ على رغم قلّتهم.. ثلاثة آلاف مقابل مائتي ألف!

ويتقابل الجيشان.. وتنشب المعركة، فما كان من جعفر إلاّ أن قطع عُرقوبَ فَرَسِه ؛ تشجيعاً منه لجيشه وهو قائده، فكان أوّلَ مَن عَرْقبَ فَرَسَه في الإسلام . وتشتدّ المعركة واللواء بيد جعفر وهو يزحف بالمسلمين على قلّتهم، وتتساقط عُلوج الروم وهو يرتجز قائلاً:

يا حَبّذا الجنّـةُ واقتِرابُـها طيّبـةٌ وبـاردٌ شَـرابُـها

والرومُ رومٌ قد دَنا عذابُها كافـرةٌ، بَعيدةٌ أنسـابُـها

حتّى قُطِعت يمينُه، فأخَذ السيفَ ( أو الراية ) بشماله، حتّى إذا قُطعت شماله ضَمَّ الرايةَ إلى صدره ختّى سقط صريعاً شهيداً.. فتناول اللواءَ منه زيدُ بن حارثة، فلمّا استُشهِد تناوله عبدُالله بن رواحة .

والتُمِس جعفر من بين الشهداء.. فوُجِدَ فيما أقبل مِن جسمه بضعٌ وتسعون بين طعنةٍ ورمية .