التوحيد في الولاية
2024-03-14

ولا نعني من الولاية ((الولاية التكوينية)) أي الربوبية والتدبير، بل المراد ((الولاية التشريعية)) وتنظيم شؤون الفرد والمجتمع في عامّة مجالات الحياة.

والولاية بهذا المعنى تعني الأمارة، ولها مظاهر ثلاثة:

1. التوحيد في الحاكمية

ولقد وجّه القرآن الكريم عناية خاصة إلى ((التوحيد في الحاكمية)) بحيث يتبيَّن بوضوح أنّ الحكم والولاية في منطق القرآن ليس إلّا للَّه تعالى وحده، وانّه لا يحق لأحد أن يحكم العباد دونه، وأنّه لا شرعية لحاكمية الآخرين إلّا إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية وقائمة بأمره تعالى، وفي غير هذه الصورة لن يكون ذلك الحكم إلّا حكماً طاغوتياً لا يتصف بالشرعية مطلقاً ولا يقرّه القرآن أبداً.

على أنّنا حينما نطرح هذا الكلام ونقول: بأنّ الحكم محض حق للَّه وأنّ الحاكمية منحصرة فيه دون سواه فليس يعني ذلك أنّ على اللَّه أن يباشر هذه الحاكمية بنفسه، ويحكم بين الناس ويدير شؤون البلاد دونما واسطة، ليقال إنّ ذلك محال غير ممكن، أو يقال إنّ ذلك يشبه مقالة الخوارج إذ قالوا للإمام علي (عليه السلام) رافضين حكمه وإمارته: ((إن الحكم إلّا للَّه، لا لك يا علي، ولا لأصحابك)) (كان هذا شعار الخوارج يردّدونه في المسجد وغيره).

بل مرادنا هو: أنّ حاكمية أيِّ شخص يريد أن يحكم البلاد والعباد لا بد أن تستمد مشروعيتها من: ((الإذن الإلهي)) له بممارسة الحاكمية.

فما لم تكن مستندة إلى هذا الإذن لم تكن مشروعة ولم يكن لها أي وزن، ولا أي قيمة مطلقاً.

ونفس هذا الكلام جار في مسألة الشفاعة أيضاً.

فعندما يصرح القرآن بوضوح قائلًا: [قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا] (الزمر: 44) لا يعني أنّه لا يشفع إلّا اللَّه، إذ لا معنى لأن يشفع اللَّه لأحد.

بل المفاد والمراد من هذه الآية هو أنّه ليس لأحد أن يشفع إلّا بإذن اللَّه، وأنّه لا تنفع الشفاعة إذا لم تكن برضاه ومشيئته (بحث المؤلف الشفاعة في كتاب مستقل باسم ((الشفاعة بين يدي القرآن والسنّة والعقل)).

2. التوحيد في الطاعة

كما أنّ الحاكمية على العباد مختصة باللَّه سبحانه، كذلك لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً غير اللَّه، فالطاعة هي أيضاً حق منحصر باللَّه سبحانه لا يشاركه فيها ولا ينازعه أحد.

وأمّا لو شاهدنا القرآن يأمرنا - في بعض الموارد - بطاعة غير اللَّه، مثل الأنبياء والأولياء، فليس لأنّ طاعة هؤلاء واجبة بالذات، بل لأنّ وجوب طاعتهم من جهة أنَّها ((عين)) طاعته سبحانه، وبأمره.

وبتعبير أجلى: حيث إنّ اللَّه تعالى ((أمر)) بطاعة هؤلاء، لهذا وجبت إطاعتهم واتّباع أوامرهم والانقياد لأقوالهم امتثالًا لأمر اللَّه وتنفيذاً لإرادته، فلا يكون هناك حينئذ إلّا ((مطاع واحد)) في واقع الحال، وهو اللَّه جل جلاله. وأمّا إطاعة الآخرين (أي غير اللَّه) فليست إلّا في ظل إطاعة اللَّه تعالى شأنه، وفرع منها.

3. التوحيد في التقنين

إنّ حق التقنين والتشريع - هو الآخر - مختص باللَّه في نظر القرآن الكريم، تماماً مثل الأُمور السالفة الذكر.

فليس لأحد سوى ((اللَّه)) حق التقنين والتشريع وجعل الأحكام وسن القوانين للحياة البشرية.

ولذلك فإنّ الذين أعطوا مثل هذا الحق للأحبار والرهبان خرجوا من دائرة التوحيد في التقنين، ودخلوا في زمرة المشركين.


مفاهيم القرآن، ج ١، الشيخ السبحاني، ص21 - ص23