علاقة العلم بالأخلاق
2024-01-13

بالنسبة للآيات السابقة وكما ذكرنا أن القرآن الكريم، أتى بـ ((تعليم الكتاب والحكمة)) إلى جانب: ((التزكية والتهذيب الأخلاقي))، فتارةً يقدم ((التزكية)) على ((التعليم))، وخرى يقدم ((التعليم)) على التزكية، وهو أمر يبين مدى العلاقة الوثيقة التي تربط بين الاثنين.

 وهذا يعني أن الإنسان، عندما ينفتح على المعرفة، وتكون لديه خبرة بالأعمال الحسنة السيئة، ويعرف عواقب ((الفضيلة)) و((الرذيلة))، فمما لا شك فيه أنها ستؤثر في تربيته، بحيث يمكن القول إن كثيراً من الرذائل ناتجة من عدم الاطلاع والفهم. ومن ذلك يمكن القول إنه إذا ما استطعنا أن ننهض بالمستوى العلمي للأفراد، وبعبارة أخرى: إذا أمكننا نشر الثقافة بين الناس، فستحل الفضائل مكان الرذائل، وإن كان هذا الأمر ليس كلياً.

 ومع الأسف الشديد، نرى أن البعض بالغوا فيها لدرجة الإفراط والتفريط. فبعض اتبعوا الحكيم سقراط اليوناني، حيث كان يعتقد بأن العلم والحكمة هي منشأ الأخلاق الحميدة، والرذائل الأخلاقية منشؤها الجهل، ولذلك فإنه كان يعتقد أيضاً أنه ولأجل محاربة الفساد والرذائل الأخلاقية وإحلال الفضائل الأخلاقية محلها، يجب العمل على رفع المستوى العلمي للمجتمع، وبالتالي تتساوى (الفضيلة) مع (المعرفة).

هؤلاء يدعون أنه لا يوجد إنسان يتجه نحو الرذيلة وهو على علم بها، وإذا ما شخصَ الإنسان الفضيلة فسوف لن يتركها، ولذلك يتوجب علينا كسب العلم، ومعرفة الخير وتمييزه من الشر لنا ولغيرنا، كي تزرع في نفوسنا بذور الفضائل الأخلاقية !.

والشاهد على ذلك المثل الحية التي نراها في المجتمع، فكثيراً ما شاهدنا أناساً كانوا يفعلون الرذائل، وعندما أدركوا قبح فعالهم ونتائجها السيئة، أقلعوا عنها واتجهوا نحو الفضائل، ووجدنا هذا الأمر حتى في وقتنا الحاضر هذا.

وفي المقابل نعرف أشخاصاً عندهم المعرفة التامة بالخير والشر، ولكنهم يصرون على الشر وهو متأصل في نفوسهم.

وكل ذلك لأن الإنسان لديه بعدان: بعد العلم والإدراك و بعد عملي، وهو الميول والغرائز والشهوات، ولأجل ذلك فساعةً يميل الى هذا، و ساعةً يُرجح ذلك.

والذي يقول بأحد القولين، فإنه يفترض أن الإنسان فيه بعد واحد لا أكثر، ويغفل عن وجود البعد الآخر.

ونشير هنا إلى الآيات القرآنية التي وردت في هذا الباب، والتي أكدت على التأثير المتبادل بين عنصر الجهل وسوء العمل، قال تعالى: [أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (سورة الأنعام، الآية ٥٤)

ومن البديهي أن الجهل المذكور ليس هو الجهل المطلق الذي لا يوائم التوبة، بل هو مرتبة من مراتب الجهل، فإذا ارتفع فسوف يهتدي الإنسان بعدها للطريق القويم.

ومن جهة أخرى تُصرّح الآيات الشريفة بوجود حالة العناد في الإنسان، مع علمه بأنه يتحرك في طريق الظلم والطغيان، مثل آل فرعون، حيث يتحدث عنهم القرآن الكريم: [وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتُها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوا] (سورة النمل آية: 14)

وقد يكون المراد من الآية هو موضوع الكذب، ولكنّه أيضاً يؤيد مدعانا، لأن قبح الكذب حكم به العقل والشرع، وهو من الأمور الواضحة التي لا تخفى على أحد.




الاخلاق في القرآن/ ج1/ أصول المسائل الاخلاقية، ص18 ـ ص20

آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي