( دَخَلَ ضِرَارُ بْنُ ضَمْرَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لَهُ ـ معاوية ـ :
صِفْ لِي عَلِيّاً ؟
فَقَالَ لَهُ :
أَوَ تُعْفِينِي مِنْ ذَلِكَ ؟
فَقَالَ :
لَا أُعْفِيكَ .
فَقَالَ :
كَانَ وَاللَّهِ بَعِيدَ الْمُدَى ، شَدِيدَ الْقُوَى ، يَقُولُ فَصْلًا ، وَيَحْكُمُ عَدْلًا ، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ ، وَتَنْطِفُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ ، يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ، وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَوَحْشَتِهِ .
كَانَ وَاللَّهِ غَزِيرَ الْعَبْرَةِ ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ ، يُقَلِّبُ كَفَّهُ ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ ، وَيُنَاجِي رَبَّهُ ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ ، وَمِنَ الطَّعَامِ مَا جَشَبَ .
كَانَ وَاللَّهِ فِينَا كَأَحَدِنَا ، يُدْنِينَا إِذَا أَتَيْنَاهُ ، وَيُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ ، وَكُنَّا مَعَ دُنُوِّهِ مِنَّا وَقُرْبِنَا مِنْهُ لَا نُكَلِّمُهُ لِهَيْبَتِهِ ، وَلَا نَرْفَعُ أَعْيُنَنَا إِلَيْهِ لِعَظَمَتِهِ ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ ، وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ .
لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفَ مِنْ عَدْلِهِ .
وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ ، وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ ، قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ ، فَكَأَنِّي الْآنَ أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ :
يَا دُنْيَا ، يَا دُنْيَا ، أَبِي تَعَرَّضْتِ ؟
أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ ؟
هَيْهَاتَ ، هَيْهَاتَ ، غُرِّي غَيْرِي ، لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ ، قَدْ أَبَنْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ لِي فِيهَا ، فَعُمُرُكِ قَصِيرٌ ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ .
آهِ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ ، وَبُعْدِ السَّفَرِ ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ ، وَعِظَمِ الْمَوْرِدِ .
فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَنَشَفَهَا بِكُمِّهِ ، وَاخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ .
ثُمَّ قَالَ ـ معاوية ـ :
كَانَ وَ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ كَذَلِكَ ، فَكَيْفَ كَانَ حُبُّكَ إِيَّاهُ ؟
قَالَ :
كَحُبِّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى ، وَأَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ مِنَ التَّقْصِيرِ .
قَالَ :
فَكَيْفَ صَبْرُكَ عَنْهُ يَا ضِرَارُ ؟
قَالَ :
صَبْرَ مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا عَلَى صَدْرِهَا ، فَهِيَ لَا تَرْقَى عَبْرَتُهَا ، وَلَا تَسْكُنُ حَرَارَتُهَا .
ثُمَّ قَامَ وَخَرَجَ وَ هُوَ بَاكٍ .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ :
أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ فَقَدْتُمُونِي لَمَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ يُثْنِي عَلَيَّ مِثْلَ هَذَا الثَّنَاءِ !
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ حَاضِراً :
الصَّاحِبُ عَلَى قَدْرِ صَاحِبِهِ .