صِفْ لِي عَلِيّاً
2019-05-25

( دَخَلَ ضِرَارُ بْنُ ضَمْرَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لَهُ ـ معاوية ـ :

صِفْ لِي عَلِيّاً ؟

فَقَالَ لَهُ :

أَوَ تُعْفِينِي مِنْ ذَلِكَ ؟

فَقَالَ :

لَا أُعْفِيكَ .

فَقَالَ :

كَانَ وَاللَّهِ بَعِيدَ الْمُدَى ، شَدِيدَ الْقُوَى ، يَقُولُ فَصْلًا ، وَيَحْكُمُ عَدْلًا ، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ ، وَتَنْطِفُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ ، يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ، وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَوَحْشَتِهِ .

كَانَ وَاللَّهِ غَزِيرَ الْعَبْرَةِ ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ ، يُقَلِّبُ كَفَّهُ ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ ، وَيُنَاجِي رَبَّهُ ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ ، وَمِنَ الطَّعَامِ مَا جَشَبَ .

كَانَ وَاللَّهِ فِينَا كَأَحَدِنَا ، يُدْنِينَا إِذَا أَتَيْنَاهُ ، وَيُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ ، وَكُنَّا مَعَ دُنُوِّهِ مِنَّا وَقُرْبِنَا مِنْهُ لَا نُكَلِّمُهُ لِهَيْبَتِهِ ، وَلَا نَرْفَعُ أَعْيُنَنَا إِلَيْهِ لِعَظَمَتِهِ ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ ، وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ .

لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفَ مِنْ عَدْلِهِ .

وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ ، وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ ، قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ ، فَكَأَنِّي الْآنَ أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ :

يَا دُنْيَا ، يَا دُنْيَا ، أَبِي تَعَرَّضْتِ ؟

أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ ؟

هَيْهَاتَ ، هَيْهَاتَ ، غُرِّي غَيْرِي ، لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ ، قَدْ أَبَنْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ لِي فِيهَا ، فَعُمُرُكِ قَصِيرٌ ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ .

آهِ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ ، وَبُعْدِ السَّفَرِ ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ ، وَعِظَمِ الْمَوْرِدِ .


فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَنَشَفَهَا بِكُمِّهِ ، وَاخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ .

ثُمَّ قَالَ ـ معاوية ـ :

كَانَ وَ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ كَذَلِكَ ، فَكَيْفَ كَانَ حُبُّكَ إِيَّاهُ ؟

قَالَ :

كَحُبِّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى ، وَأَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ مِنَ التَّقْصِيرِ .

قَالَ :

فَكَيْفَ صَبْرُكَ عَنْهُ يَا ضِرَارُ ؟

قَالَ :

صَبْرَ مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا عَلَى صَدْرِهَا ، فَهِيَ لَا تَرْقَى عَبْرَتُهَا ، وَلَا تَسْكُنُ حَرَارَتُهَا .

ثُمَّ قَامَ وَخَرَجَ وَ هُوَ بَاكٍ .

فَقَالَ مُعَاوِيَةُ :

أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ فَقَدْتُمُونِي لَمَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ يُثْنِي عَلَيَّ مِثْلَ هَذَا الثَّنَاءِ !

فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ حَاضِراً :

الصَّاحِبُ عَلَى قَدْرِ صَاحِبِهِ .